Saturday, October 28, 2006



هواء خفيف محتشد بالأجساد
سلمان رشدي/ترجمة: أسامة منزلجي
غنَّى جبريل فاريشتا وهو يهبط من أعالي السماوات " لكي تولدَ من جديد عليكَ أولاً أن تموت. هو دجي ! هو دجي ! ولكي يستقر المرء على الأرض الناهد، عليه أولاً أنْ يطير. تات-تاا ! تاكا-تون ! كيف يمكنكَ أنْ تستعيد الابتسام، إذا لم تبكِ أولاً ؟ كيف يمكنكَ أنْ تفوز بحب الحبيبة، يا سيد، إذا لم تتأوَّه ؟ بابا، إذا أردتَ أنْ تولد من جديد... ". قُبيل فجر صباح يوم شتائي، في أول يوم من العام الجديد أو نحوه، سقطَ رجلان حقيقيان، كاملا النمو، من الأحياء، من علوٍّ شاهق، يبلغ تسعة وعشرين ألف قدم وقدمين، إلى القنال الإنكليزي، دون الاستعانة بمظلات أو أجنحة، يشقّان عنان السماء الصافية.‏‏
" ها أنا أقول لك، يجب أنْ تموت، ها أنا أقول لك، ها أنا أقول لك " هكذا أخذ يُردِّد تحت قمر من المرمر إلى أنْ شقَّت صرخةٌ قلبَ الليل، " اذهب إلى الجحيم مع ألحانك " وعلِقَت الكلمات متبلورة في الليل الأبيض المُثلج، " في السينما أنت فقط تُحاكي المغنين، لذا وفِّر عليّ الآن هذا الضجيج الجحيمي "‏‏
كان جبريل، المغني الافرادي بلا موسيقى، يطفرُ مرحاً تحت ضوء القمر وهو يغني غزَلَه المُرتَجل، سابحاً في الفضاء، سباحة الفراشة، سباحة الصدر، مكوِّراً نفسه كالكرة، ناشراً نفسه في وجه شبه الأبدية لشبه الفجر، مُتخذاً وِقفات فخمة، شابّاً، رابضاً، مُقارعاً الجاذبيّة بالخفّة. والآن انتقلَ بمرح إلى الصوت الساخر، " أوه، صلاح الدين بابا، هذا أنت، رائع، كيف الحال، أيها العجوز تشمش ". على هذا أجاب الآخر، وهو شبح نيِّق يسقط سقوطاً مباشراً مُرتدياً بذلة رمادية اللون وأزرار سترته كلها مُثبَّتة، وذراعاه إلى جنبيه، مُسلِّماً باستحالة بقاء قبعته المستديرة السوداء على رأسه، راسماً على وجهه تعبير كرهه للألقاب. زعقَ جبريل، مُحدِثاً إجفالاً عكسياً لحظياً، " هيه، سبونو، ها هي لندن اللائقة، باي ! ها قد وصلنا ! أولاد الحرام أولئك في الأسفل لا يعرفون ما الذي سيضربهم. نيزك أم برق أم انتقام الله. من حيث لا يعلمون، يا عزيزي. داررراااام م م م م ! بوم، نا ؟ يا له من دخول، نعم، أقسم : سبلات.‏‏
من حيث لا يعلمون : ضربة مدوّية، تبعها سقوط نجوم. بداية كونية، صدى مُنمنم لمولد الزمن... الجمبو جت بوسطن. الرحلة ايه1 - 420 ، انفجرت وتناثرت دون سابق إنذار، فوق المدينة المُضاءة، الناصعة البياض، الجميلة، المتعفّنة، العظمى، ماهاغوني، بابل، ألفافيل. لكنَّ جبريل قد سمّاها، يجب ألاّ أتدخَّل : لندن اللائقة، عاصمة الولاية، وَمَضَتْ وتلألأت وأومأتْ في الليل. بينما فوق أعالي جبال الهيمالايا تفجَّرتْ شمسٌ واهنة وظهرت قبل الأوان في هواء شهر كانون ثاني الهشّ، تلاشت صورة من شاشات الرادار، وكان الهواء الخفيف يحتشد بالأجساد، ساقطة من ذروة الكارثة إلى شحوب البحر الحليبي.‏‏
مَنْ أنا ؟‏‏
مَنْ أيضاً يوجد هنا ؟‏‏
تحطمت الطائرة وانشقت إلى نصفَين، كقرنة بذور تُعطي بذورها، أو بيضة تكشف عن سرّها. ممثلان، جبريل المرِح والسيد صلاح الدين تشامشا المُثبَّت الأزرار، المُحزَّم، يسقطان كفُتات من التبغ من سيجار عتيق مكسور. وفوقهما، وخلفهما، وتحتهما في الفضاء تطفو مقاعد للاتّكاء، وسماعات رأس ستريوفونية، وعربات المشروبات، ومقابس اضطراب الحركة، وبطاقات النزول من الطائرة، وألعاب فيديو معفيّة من الضرائب، وقبعات مُزركشة، وأكواب من ورق، وملاءات، وأقنعة استنشاق الأوكسجين. وأيضاً – ذلك أنه كان هناك أكثر من بضعة مُهاجرين على متن الطائرة، نعم، وعدد كبير من الزوجات يذقن العذاب على أيدي مسؤولين رسميين عاقلين يؤدون أعمالهم حول طول الشامات البارزة على أعضاء أزواجهن التناسلية، وعدد كاف من الأطفال ألقتْ الحكومة البريطانية حول شرعيتهم ظلاً من الشك – امتزج مع بقايا الطائرة، المتساوية في الأحجام، والتفاهة، طافياً، حطامُ الروح، وذكريات مُحطَّمة، وذوات منبوذة، وألسنة أمهات مقطوعة، وخصوصيات مُنتَهَكة، ونكات غير مفهومة، وآمال مُحطَّمة، وعلاقات حب ضائعة، والمعنى المنسيّ لكلمات جوفاء، طنّانة، أرض، انتماء، وطن. هبطَ جبريل وصلاح الدين، وقد جعلهما الانفجار أبلهَين قليلاً، كصُرَّتين رماهما طائر لقلق فتح منقاريه بإهمال، ولأنَّ تشامشا كان يسقط بصورة شاقوليّة، وهو الوضع الموصى به للمواليد الذين يلجون قناة الخروج إلى العالم، بدأ يشعر بقليل من الغضب بسبب رفض الآخر السقوط بالطريقة البسيطة. تشامشا كان يغوصُ بدءاً بأنفه بينما عانقَ فاريشتا الهواء، وكان يضمّه إليه بذراعيه وساقيه، بضربات متلاحقة، كممثل مُرهق لا يمتلك تقنيات كبح نفسه. وفي الأسفل، كانت تيارات الكُمّ الإنكليزي البطيئة الحركة والمتجمدة، المُجللة بالغيوم، تنتظر وصولهما، وهي المنطقة المُحدَّدة لحدوث تجسّدهم الجديد.‏‏
__________________‏‏
- أي أنه يُقلِّد صوت إيقاع الأغنية بصوتٍ من فمه.‏‏
- المترجم‏‏
__________________-‏‏
من رواية آيات شيطانية..نقلا عن موقع " أوكسجين "‏‏
"*****‏‏

1 comment:

باسم شرف said...

يسقطان كفُتات من التبغ من سيجار عتيق مكسور. وفوقهما، وخلفهما، وتحتهما في الفضاء تطفو مقاعد للاتّكاء، وسماعات رأس ستريوفونية، وعربات المشروبات، ومقابس اضطراب الحركة، وبطاقات النزول من الطائرة، وألعاب فيديو معفيّة من الضرائب، وقبعات مُزركشة، وأكواب من ورق، وملاءات، وأقنعة استنشاق الأوكسجين.

هكذا تكون انت والحياة