Tuesday, November 18, 2008

صانع الصور الأعمى


لا يذكر المُصوِّر العجوز متى استغنى عن عينيه تماماً ، مكتفياً بحدقة الزجاج ، و بصوت الفلاش الأليف الذي كان يخبره مرةً بعد أخرى أ ن مهمةً جديدةً قد انتهت .

الزبائن لم يلحظوا شيئاً . لم يدر بخلدهم أن عينه اليمنى المفتوحة حدقة عمياء . بئرُ ظلمةٍ يرقد فيها الخواء . أن العين اليسرى ، المغلقة دائماً كي لا يهتز المشهد ، ربما ترى أفضل .

المُصور العجوز لا يذكر من أيامه سوى لحظة ولادته . لا يزال يسمع صرخة الحياة ، و همهمات الأهل .. و قطرة عرق باردة سالت من جبين الأم على جسده ، قبل أن تتوجه في اليوم التالي إلى مقبرتها .

شاخ فجأة
كأن الحياة لم تكن .

تعوَّد أن يتأمل الظلمة و يفكر : لو جرب الناس التحديق في العتمة لن يشيخوا ، لأنهم سيحتفظون بأعينهم فترة أطول . لن تكتظ ذاكرتهم بالضوء الذي يسيل في لحظة ، كطعنة برق ، ليُغرق غرفهم ، و يترك تاريخهم مثل وعاءٍ فارغ .

في قرارة نفسه أيقن أن الصباح لعنة من يستيقظون مبكراً
أن المساء وداعٌ ثقيل غير أنه يليق بيقظة حب منسي .. بأرصفة تبدل أماكنها .. و بأثر وردة .

كان مديناً للظلام بكل شيء ، على الأقل لأنه شاهد ماضيه في حلكته .. غائماً بلون " السيبيا " ، و غامضاً ، كزائرٍ لم يأت .

حبة العرق القديمة لا تزال ترقد بين عينيه ندبةٌ خافتة
تؤلمه كلما لامسها
كأنه وُلِد للتو .

لم يكن يخشى الموت قدر ما كان يخشى الحياة . فكلما مات أحد زبائنه ، كان شبحه يتسلل إلى غرفة التحميض . يسترد صوره .. و يترك بدلاً منها ملابسه التي لن يحتاجها في الآخرة .

هكذا تحوَّل المكان يوماً بعد آخر إلى دولاب ملابس ضخم .. بروائح الأنفاس المخزونة .. ببقايا الشهيق و الزفير لبلدة كاملة تحت الأرض .. ليكتشف المصور العجوز بحسرة ، أن المكان الذي أعده ليصير مقبرته لم يعد يصلح ، سوى للحياة

سرد ـــــــــــــ 1


تشترك الرواية مع السينما في شيء آخر غير أن كلاهما يسردان حياة ممتدة في مدي محدود نسبيا ــ على مستوى عدد الصفحات في الرواية و زمن العرض في الفيلم السينمائي .الرواية و الفيلم السينمائي يتمتعان بصفة " الاتصال " كفني تشخيص بالأساس ، و تمثل لهما التقنيات و دهاليز الصنعة ضرورات لابد منها للتحقق : المعمار ، البناء الكلي ، كيفية تحريك العالم ، الانتقال بين الشخوص ، مستويات اللغة و انتقالات الزمن، لغة الشخوص و سماتهم ، الانتقال بين تاريخ الشخصية و حاضرها ، تحريك الحدث أو الأحداث للأمام و الخلف ، حجم كل مشهد و لقطة ، مداه . كلاهماــ الرواية و السينما ــ ابن الصنعة بامتياز .. لا مكان هنا لمنطق الدفقة ، أو الارتجال المطلق ، أو المزاجية المرسلة.. الإلهام يتحقق داخل الإطار النظامي الأشمل ..و البنية المجردة لابد من مثولها تحت غطاء التجسيد الذي يوهمك بعدم وجودها .و سؤال كليهما الأساسي : كيف لا تخون نفسك كصانع ، كبنَّاء ، و لا تحرم نفسك من التجريب مع الاحتفاظ بمساحة تواصل لا تجعل نصك غائبا في التغريب ؟ . أنت بين حدين ، يمكنك أن تميل لأحدهما إن أردت و لن تعدم مكاسب من كل خيار : التواصل السهل على إطلاقه مع إدارة ظهرك للثقل الفني و الجمالي الضروريين و إهمال مقتضيات الخطاب ..لتكسب " الزباين " و فرشة بائعي الجرائد .. أو الاتكاء على كل ذلك و مخاصمة فكرة القاريء / المشاهد البريء الباحث عن قدر من المتعة و التسلية ، و هو حقه في النهاية ، و الطامح لتواصل حقيقي.

تاريخ الرواية ــ كتاريخ السينما ــ انحاز بوضوح لقليلين استطاعوا أن يجمعوا بين حسنيين .الشعرة بين " التوفيق " و " التلفيق " واهية جداً ..التوفيق تنتجه معرفة عميقة ، قراءة واعية ، معرفة حقيقية .. التلفيق " حتة من هنا و حتة من هناك علشان كل الناس تتبسط " . التوفيق يصنع نجيب محفوظ و جابرييل جارثيا ماركيز و خوزيه ساراماجو ،و مارتن سكورسيزي و كوبولا .. أما التلفيق فيصنع طوابير طويلة من مدعين بلا أسماء .

أعتقد أن أحد أسئلتي كروائي ــ و التي أشتغل عليها بدأب منذ سنوات ــ هو كيف أطرح نصي الخاص جداً على العالم . أنا أقصد كل حرف في هذه العبارة .. شيء صعب بالتأكيد أن تكون أنت و أن تظل قادراً على الوصول لآخرين .. أنا و الآخر معاً .. و ليس أنا أو الآخر . هذا سؤال روائي بامتياز ، قد لا يكون على نفس درجة الخطورة مع القصيدة أو القصة القصيرة أو اللوحة التشكيلية . الرواية هي صوتك المتعالق مع مجموع .. بل هي صوتك الذي يتحول في النص إلى مجرد صوت واحد لشخصية أمام أصوات أخرى .. أنت لست روايتك .. ففيها شخصيات تختلف عنك و تطرح صراعاتها بعيداً عن يقينياتك .. لكنك في القصيدة و القصة و اللوحة و قطعة الموسيقى أنت فقط .. الصوت صوتك .

أنت في الرواية تملك سلطة إدارة العالم .. حسناً .. و لكنك في أشكال التعبير الأخرى تملك سلطة أن تكون أنت العالم .ربما لذلك تتحقق نرجسية الروائي من معمار عالمه .. مثلما يتحقق أب بتحقق أبنائه رغم أنهم ــ عملياً ــ ليسوا هو ..بينما تتحقق نرجسية الشاعر من كونه الخاص . الشاعر يحيل العالم إلى ذات .. الروائي يحيل الذات إلى عالم . هذه ليست مقارنة .. فلكل خطاب خصوصيته و ضرورة وجوده ليكتمل مشهد الوجود الواسع ..و لكن الرواية لا تملك الكثير من الترف ــ عكس ما يعتقد الكثيرون ــ و بعض من التفتوا للترف تحققوا ، لكن أحداً الآن لا يبدو معنياً كثيراً بعظمة جيمس جويس و فرجينيا وولف مثلاً .. ليس سوى الأكاديميين و ساردي تحولات الرواية . نعم .. صنع البعض تحولات على هذا النحو و لكنهم خسروا الاستمرارية الحقيقية التي حققها آخرون

في مصرنا الحبيبة نطرح دائمامفارقة وهمية مفادها أنك إما أن تكون جاداً بلا قاريء أو هلاساً بلا اعتراف نقدي من السلطة الأدبية . في الغرب تجد رواية واحدة ثقيلة فنياً و " مكسرة الدنيا " جماهيرياً و تحصل على أرقى الجوائز .. و الكلام نفسه بالطبع ينطبق على السينما هنا و هناك . لماذا هذا الفصل المصطنع ؟؟ لماذا هذه الحدية القاسية ؟ لماذا يخشى الناقد عندنا الاقتراب من رواية ناجحة جماهيرياً .. لأنها أكيد " خفيفة " .. و لماذا يهاب القاريء شراء رواية كتب عنها النقاد ؟؟ ..عندنا في حاجة اسمها أفلام مهرجانات و حاجة تانية اسمها أفلام سوق .. و في الرواية هناك رواية قراء و رواية نقاد ..و المحصلة واقع عانى طويلاً من الركود ، و لم يشهد أي حراك إلا عندما بدأ جيل مختلف ــ من الكتاب و القراء على حد سواء ــ يتواصل .. متخذا من فضاءات التواصل الجديدة ، الافتراضية ، طريقة جديدة بعيداً عن قاعات الندوات الضيقة المهجورة و معارك النخبة في الغرف الموصدة .

Monday, November 17, 2008

عملة موحلة


عملة تسقط في قاع بئر

فتخبرك أن الصدى ليس سوى اسم آخر للصمت

أن الشوارع الموحلة

تلائم أشخاصاً وحيدين

ولدوا في الصيف