Friday, December 28, 2007

هدوء القتلة

تحديث
هدوء القتلة في الدستور الأسبوعي ، 16 يناير 2008
.........
و فصل من هدوء القتلة على موقع كيكا
تعوَّد جابر في المرات التي كان يمر فيها بـ "ليل" ـ الإسكافي ـ أن يترك له ساقه الصناعية كلها ، ويمشي متعكزاً على عصاه ، عائداً إلى بيته
هذه الساق اليُسرى هي
خلود جابر الحقيقي: ساق قوية ، ناعمة ومصقولة ، لن تشيخ أبداً ، ولن تصحبه إلى مقبرته.. وحتى إن فعلت ، لن تفنى، لن يهزمها التراب.
ساقه التي لا تؤلمه ، لا تعرفها الكدمات ولا تنز منها الدماء. أما ساقه اليمنى ..النحيفة المشعرة ، ساقه التي تنتمي له تماماً.. فيترك قدمها حافية ، تدوس على قطع الزجاج وحصى الشوارع . قدم مجربة مدماة تليق بشخص مثله


تعوَّد ليل بدوره أن ينهمك في تأمل تلك الساق الميتة التي يتركها له صاحبها في كل مرة ، كلعنةٍ خفية كانت تترك خلفها ليالٍ عامرةٍ بالكوابيس
وكان ليل يندهش دائماً ، بينما يخلع عنها فردة الحذاء ، أن لقدمها الحافية رائحة عفنة : رائحة قدم بشرية

....

قرر ليل كثيراً أن يقتل جابر ، تمنى لو كان لا يزال محتفظا بمطواته العتيقة الهائمة الآن ، ليرفعها لحظة اقترابه منه ويتركها تذكاراً في عنقه ، ثم يهرب. فعلها ليل كثيراً قبل ذلك.. قاتل محترف لم يعد يذكر حتى عدد قتلاه. أقنعة غائمة ، متوحدة ، بابتسامات غير مبررة.. ابتسامات من غادروا الدنيا دون أن يقرروا ذلك ودون أن يعترضوا عليه بحسم في الوقت ذاته. كانوا ـ فقط ـ يهاجمونه في أحلامه التي كان يستيقظ معها غير مصدق أنه لا يزال على قيد الحياة
أخبرني ليل بنواياه بينما يؤكد أنه لم يعد ينام. يجيء ضحاياه القدامى في الأحلام حاملين جميعاً ساق جابر الضخمة الملساء ثم يدقون بكعب حذائها القوي ـ المليء بالمسامير التي ثبتها ليل بالذات ـ رَأسَه حتى يتناثر.
لم أكن أعلق ، وكنت أريد أن أخبر ليل أنني أيضاً قاتل ، قاتل شاب متوحد.. وأنه – من خبرتي المحدودة - فإن قتله لجابر لن يحل المشكلة. على العكس ، ستزداد تعقيداً ، لأن جابر سيأتي بعد ذلك بنفسه في مناماته ، سيرفع ساقه بيده القوية هابطاً بها على رأسه ليقتله في الواقع.. وليستيقظ ليل مفاجئاً بفتات جمجمته على ملاءة السرير
بيت ليل ليس سوى غرفة في قلب المقابر ، ويعتقد الكثيرون أن جابر ليس سوى شبح أزرق يزوره في صباحاته .. خاصة أن أحداً لم ير جابر سوى كحاملٍ للنعوش ، يزك قليلاً بينما "يؤاجر" بقدمين غير متساويتين: واحدة غائصة في الحصى والأخرى معزولة في فردة حذاء عالية الكعب.. لتهتز النعوش مع اهتزازه تحت أركانها. يعرف ليل ذلك ، وربما لهذا السبب فكرَّ ليل كثيراً ، عرف أن قتله لجابر سيكون آمناً: إما أن تخترق المطواة جسده الشبحي ليتأكد أنه ليس سوى حلم يقظة.. وإما أن تنفجر الدماء مخلصةً إياه من ذلك القاتل الشخصي. لم يكن ليل يخاف من الحل الثاني ، ولكنه كان يموت رعباً إن هو قتل شبحاً ، لأن لعنة المنامات بعدها ستتحول إلى انتقام معلن سيتحول معه الإسكافي الخائف إلى مجذوب


إذا أردت الإنتقام من ألد أعدائك دعه يحيا. هكذا تركت لديَّ الحياةُ بعضَ حكمتها. لم أعرف شخصاً قبل ذلك عاقَبَه الموت.. بينما أستطيع أن أحصي لك عشرات بل مئات .. آلاف.. ملايين الأشخاص ممن تكفلت بهم الحياة
على أية حال لا أستطيع أن أقول ذلك أمامه. على القاتل - خاصة ممن ينتمون للنوعية النادرة التي أنتمى إليها - أن يخفي فلسفته ، لأن فلسفة القاتل هي نفسها آثار جرائمه .. اللحظة التي يستطيع فيها شخصٌ أن يعرف كيف تفكر - وليس كيف تُنَفِّذ جرائمك - هي دائماً اللحظة التي تموت فيها ، وهو أيضاً.. لأن من يكشف عن قاتل حقيقي هو بالضرورة وكما تعلمنا - قاتلٌ مبيَّت


ليل رأى دماءً كثيرة قبل ذلك.. لكن يده أبداً لم تلوث. أعرفُ جيداً يدَ القاتل الأصيل: إنها تشبه - على نحوٍ ما - يدَ عازف. أناملها مخنثة ، أطرافها ناحلة ووردية ، لابد أن تكون أطرافها وردية : لها ذلك اللون الذي لا تخطؤه عين خبيرة : يدُ القاتل تحتفظ دوماً بتاريخها ، لأنها لا تملك سواه.. وهذا هو الفارق الجوهري ، وربما الوحيد ، بينها وبين يد الشاعر: فرغم التشابه الرهيب بينهما إلا أن الثانية تبقى آمنة ، نعم آمنة ، لأنها بينما تستحضر لحظات زائلة.. تكون الأولى - بالتزامن - منهمكة بكل إخلاص ، في تأكيد حيواتٍ مبتورة

.......................................

هدوء القتلة ، رواية

يناير 2008


عن دار ميريت
..........................
الغلاف : الفنان الكبير أحمد اللباد